يوسف بن تاشفين: مؤسس دولة المرابطين وناصر الأندلس
في عصر تمزقت فيه بلاد المغرب والأندلس، ظهر رجل من صحراء موريتانيا ليوحد المسلمين تحت راية واحدة. يوسف بن تاشفين... الاسم الذي ارتبط بالعزة والكرامة، والذي جعل أوروبا كلها تقف مذهولة أمام عظمته.
هل تعلم أن هذا القائد عاش قرنًا كاملًا من الزمان؟ قضى معظمه في الجهاد ونشر العدل. ومن قلب الصحراء القاحلة، بنى دولة امتدت من المحيط الأطلسي غربًا حتى الجزائر شرقًا، ومن السودان جنوبًا إلى قلب الأندلس شمالًا.
من هو يوسف بن تاشفين؟
النشأة والأصول
ولد أبو يعقوب يوسف بن تاشفين بن إبراهيم اللمتوني الصنهاجي عام 400 هجرية الموافق 1009 ميلادية، في منطقة لمتونة التي كانت تسكنها قبيلته الممتدة من وادي نون إلى رأس موغادور.
قبيلته؟ كانت من قبائل صنهاجة الأمازيغية العريقة. عائلته الحاكمة بسطت سيطرتها على المنطقة منذ زمن بعيد — وهذا ما أهّله للقيادة لاحقًا.
التكوين العلمي والروحي
أخذ يوسف بن تاشفين تعاليم الدين الإسلامي على يد الفقيه الشيخ عبد الله بن ياسين، الذي كان له الفضل في تكوين الجيل الأول من حركة المرابطين. تلقى في طفولته العلم من أفواه المحدثين والوعاظ في الصحراء حيث كانت المدارس نادرة.
لكن — وهذا مهم جداً — تكوينه لم يقتصر على العلم الشرعي فقط. تعلم منه الفروسية إلى جانب التكوين الديني والتربوي والجسدي، مما أهله لقيادة جيش المرابطين.
الصفات الشخصية
كان يوسف أسمر اللون، معتدل القامة، نحيف الجسم، خفيف العارضين، رقيق الصوت، أكحل العينين، أقنى الأنف، مقرون الحاجبين، أجعد الشعر.
ربما تظن أن هذه الصفات الجسدية غير مهمة؟ لا. فالمؤرخون ذكروها لأنها تعكس بساطته وتواضعه رغم عظمة ما حققه.
صعود نجم القائد العظيم
البدايات مع الحركة المرابطية
بدأ نجم يوسف بن تاشفين في الظهور في معركة الواحات عام 448 هجرية حيث كان قائدًا لمقدمة جيش المرابطين. وبعد فتح مدينة سجلماسة عيّنه الأمير أبو بكر بن عمر اللمتوني واليًا عليها، فأظهر مهارة إدارية في تنظيمها.
لاحظ هنا — كان شابًا يافعًا لكنه أثبت كفاءته الإدارية والعسكرية معًا. صح؟
تولي قيادة دولة المرابطين
عندما اضطر ابن عمه أبو بكر بن عمر للعودة إلى الصحراء لحل نزاع قبلي، ترك يوسف نائبًا عنه في المغرب. أعاد يوسف ترتيب الدولة في شهرين فقط، فلما عاد أبو بكر تفاجأ بقدرته على ترتيب الدولة.
فقرّر التنازل له عن الملك قائلًا: أنت أخي وابن عمي، ولم أرَ مَن يقوم بأمر المغرب غيرك، ولا أحق به منك. يعني تنازل طوعًا — لأنه رأى فيه الأصلح للمسلمين.
توحيد بلاد المغرب
قام يوسف نحو المغرب الشمالي لينتزعه من أيدي الزناتيين، واستطاع أن يدخل مدينة فاس صلحًا عام 455 هجرية. وفي سنة 1067 ميلادية تمكن من فتح كل البلاد الواقعة بين الريف وطنجة.
وسيّر يوسف إلى طنجة جيشًا من اثني عشر ألف فارس مرابطي وعشرين ألفًا من القبائل بقيادة صالح بن عمران عام 470 هجرية، وانتصر المرابطون وفتحوا طنجة.
بناء مدينة مراكش: عاصمة الإمبراطورية
قام يوسف ببناء مدينة مراكش عام 454 هجرية الموافق 1062 ميلادية وجعلها عاصمة مملكته.
اشترى أرضًا تقع في شمال مدينة أغمات لتكون مركزًا أساسيًا لحكمه. المدينة التي بدأت معسكرًا عسكريًا صغيرًا — أصبحت إحدى أعظم حواضر المغرب الإسلامي.
اليوم؟ مراكش لا تزال شاهدة على عبقرية هذا الرجل في التخطيط والبناء.
الأندلس تستغيث: نداء العون
عصر ملوك الطوائف والضعف
في النصف الثاني من القرن الحادي عشر كان المسلمون في الأندلس أشد خصومة وتطاحنًا فيما بينهم، وانقسمت الأندلس إلى دويلات صغيرة متناحرة عُرفت باسم ملوك الطوائف.
سقطت طليطلة في يد ألفونسو السادس عام 478 هجرية الموافق 1085 ميلادية بعد أن حكمها المسلمون ثلاثمائة واثنين وسبعين عامًا. تخيل — عاصمة القوط القديمة ضاعت من المسلمين بسبب تفرقهم!
قرار المعتمد بن عباد التاريخي
قال المعتمد بن عباد عبارته الشهيرة: أفضل أن أصبح أسيرًا عند أمير المسلمين على أن أكون أسيرًا عند ألفونسو.
قام أهل الأندلس وأمراؤهم بإرسال سفارات ورسائل ليوسف بن تاشفين تستنجده وتطلب منه الغوث والنصرة، فاستجاب لهم.
معركة الزلاقة: يوم الفرقان
الإعداد للمواجهة الكبرى
عبر يوسف بن تاشفين البحر في يوم الخميس منتصف ربيع الأول 479 هجرية الموافق 30 يونيو 1086 ميلادية، ثم تحركت العساكر إلى إشبيلية. خرج المعتمد وجماعته من الفرسان لتلقيه، وتعانقا، ودعوا الله أن يجعل جهادهما خالصًا لوجهه الكريم.
بعث يوسف بن تاشفين رسالة لألفونسو السادس قائلًا: بلغنا أنك تريد الاجتماع بنا وتمنيت أن تكون لك سفن لتعبر بها إلينا، ها نحن قد عبرنا إليك!
وأرسل رسالة أخرى يقول فيها: من أمير المسلمين يوسف ابن تاشفين إلى ملك الروم ألفونسو السادس، سلام على من اتبع الهدى وبعد، وإني أعرض عليك الإسلام، أو الجزية عن يد وأنت صاغر، أو الحرب.
غدر ألفونسو والاستعداد
اتفق الطرفان على أن تكون المعركة يوم الإثنين، لكن ألفونسو أضمر الخديعة ونقض العهد. قال ألفونسو: الجمعة عيد المسلمين، والسبت عيد اليهود وفي معسكرنا منهم خلق كثير، والأحد عيدنا.
لكن يوسف بن تاشفين كان أذكى من ذلك. علم أنهم أهل خداع ونقض عهود، فأخذ أهبة الحرب لهم وجعل عليهم العيون.
اليوم الموعود: 23 أكتوبر 1086
في فجر يوم الجمعة 12 رجب 479 هجرية الموافق 23 أكتوبر 1086 ميلادية، رأى عالم جليل اسمه ابن رميلة رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام يقول له: إنكم منصورون، وإنك ملاقينا.
زحف ألفونسو بجيشه صباح الجمعة غادرًا، ودارت معركة حامية، تحمل جنود الأندلس الصدمة الأولى، وأظهر المعتمد بن عباد بطولة رائعة وجرح في المعركة.
دفع ابن تاشفين بجيوشه إلى أتون المعركة، ثم حمل بنفسه بالقوة الاحتياطية إلى المعسكر القشتالي فهاجمه بشدة واتجه صوب مؤخرته فأثخن فيه وأشعل النار. وتمكن أحد جنوده من الوصول إلى ألفونسو السادس وطعنه في فخذه طعنة نافذة جعلته يعرج طوال حياته.
نتائج المعركة التاريخية
لم يبقَ من بين 60 ألف صليبي إلا 100 مقاتل فقط من بينهم ألفونسو السادس بساقٍ واحدة، هرب بها إلى قشتالة ليموت بعدها بسنة كمدًا وغمًّا.
كان انتصار المسلمين في الزلاقة انتصارًا لا يقلّ أهمية عن انتصارهم في القادسية وحطين، انتصارًا أخّر سقوط الأندلس بأيديهم أكثر من ثلاثمائة عام!
دولة المرابطين في أوج عظمتها
ضم الأندلس إلى دولة المرابطين
في عبور يوسف الثالث استولى على الأندلس الإسلامية كاملة عام 496 هجرية 1103 ميلادية، وضمها لدولة المرابطين. قرر يوسف بن تاشفين ضم الأندلس إلى دولته، ونفى المعتمد بن عباد إلى أغمات بمراكش.
قد تسأل: لماذا نفى المعتمد رغم أنه من استنجد به؟ لأن ملوك الطوائف — رغم حسن نواياهم — كانوا سببًا في ضعف الأندلس بتفرقهم.
امتداد الدولة وقوتها
امتدت دولة المرابطين من مدينة بجاية الجزائية شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، ومن منطقة بلاد السودان جنوبًا حتى بلاد الأندلس شمالًا، كأكبر دولة في إفريقيا وأوروبا حينها.
وكان ملكه قد انتهى إلى مدينة أفراغة من قاصية شرق الأندلس، وإلى مدينة أشبونة على البحر المحيط، وذلك مسيرة ثلاثة وثلاثين يومًا طولًا.
لقب أمير المسلمين
تسمى ابن تاشفين لأول مرة في التاريخ الإسلامي بلقب أمير المسلمين، ثم أرسل إلى الخليفة العباسي المستظهر بالله يطلب تقليده الولاية، فبعث إليه الخليفة بمرسوم الولاية.
وإنما تسمى بأمير المسلمين دون أمير المؤمنين أدبًا مع الخليفة حتى لا يشاركه في لقبه. شوف التواضع والورع!
شخصية يوسف بن تاشفين: الحاكم العادل
الزهد والتقشف
كان زاهدًا في زينة الدنيا وزهرتها، ورعًا متقشفًا، لباسه الصوف لم يلبس قطُّ غيره، ومأكله الشعير ولحوم الإبل وألبانها مقتصرًا على ذلك.
يقال إنه وُجد في بيت ماله بعد وفاته ثلاثة عشر ألف ربع من الورق، وخمسة آلاف وأربعون ربعًا من مطبوع الذهب — رغم أنه حكم أكبر إمبراطورية في زمانه!
العدل والحكم بالشريعة
لم يُرَ في بلد من بلاده ولا عمل من أعماله على طول أيامه رسم مَكسٍ ولا خراجٌ إلا ما أمر الله به من الزكوات والأعشار وجزيات أهل الذمة وأخماس الغنائم.
رد أحكام البلاد إلى القضاة وأسقط ما دون الأحكام الشرعية، وكان يسير في أعماله بنفسه فيتفقد أحوال الرعية في كل سنة.
حبه للعلماء وأهل الفضل
كان محبًا للفقهاء وأهل العلم والفضل مكرمًا لهم صادرًا عن رأيهم، يُجري عليهم أرزاقهم من بيت المال. قال الإمام الذهبي في سِيَر أعلام النبلاء: كان ابن تاشفين كثير العفو مقربًا للعلماء، وكان سائسًا حازمًا.
كان مع ذلك حسن الأخلاق متواضعًا كثير الحياء جامعًا لخصال الخير.
وفاة القائد العظيم
في واحد محرم عام 500 هجرية، رحل يوسف بن تاشفين بعد أن أوقف المد النصراني في الأندلس. عاش قرابة مائة عام — قضاها كلها في العبادة والجهاد ونشر العدل.
إرث يوسف بن تاشفين وأثره التاريخي
إنقاذ الأندلس من السقوط
أخّر سقوط الأندلس قرونًا طويلة. لولا معركة الزلاقة — ربما كانت الأندلس سقطت في القرن الحادي عشر بدلًا من القرن الخامس عشر.
نموذج القائد المسلم
كان نموذجًا فريدًا للقائد المسلم الذي يجمع بين القوة والرحمة، بين العلم والجهاد، بين الزهد والحكم. حكم أكبر دولة في زمانه — لكنه ظل يلبس الصوف ويأكل الشعير!
توحيد المغرب والأندلس
وحّد بلاد المغرب تحت راية واحدة لأول مرة منذ عقود من التشرذم. أنهى عصر ملوك الطوائف في الأندلس وجعلها جزءًا من دولة قوية موحدة.
خاتمة: دروس من حياة البطل
يوسف بن تاشفين — رجل من صحراء موريتانيا غيّر مجرى التاريخ. علّمنا أن العظمة الحقيقية ليست في جمع المال والسلطة، بل في العدل والزهد والجهاد في سبيل الله.
علّمنا أن الوحدة قوة — وأن تفرق المسلمين هو سبب ضعفهم. علّمنا أن القائد الحق هو من يخدم شعبه ولا يستعبده.
في زمن نحتاج فيه لقدوات حقيقية — تبقى سيرة يوسف بن تاشفين منارة تضيء الطريق. أليس كذلك؟
هل كان المقال مفيداً؟
التعليقات (0)
اترك تعليق
لا توجد تعليقات بعد. كن أول من يعلق!